Blog

Home / ذنب الناجي

April 9, 2019

ذنب الناجي

هيئته فوضوية.. شعره الرمادي تنظر له بدهشة وأنت تتساءل متى آخر مرة فكر بتمشيطه، أم أنه متعمد تركه بهذا المنظر؟! يرتدي أكثر من خمس أنواع على الأقل من العلامات التجارية باهظة الثمن، قد تعتقد بأنها مقلدة لكثرتها. له طريقة خاصة في الحوار، يرسل نَظَراته حيث اللاشيء، فيُحدثك دون أن يتواصل معك بعينيه، يتظاهر بالهدوء وتَرَوّي مُلفت، يحُثك على الاستماع له. يسرد التفاصيل الدقيقة كطبيب قلب مختص، يُظهر لك مَا لم تراه في حديثه -إن كنت تحليلياً مثلي- فسترى كل تلك التفاصيل ويفهمها قلبك وعقلك. أسمعه كأني أقرأ تفاصيلها، بينما فيها الكثير من الجمال والفقد

دائماً يصف حياته مع إخوته بصياغة الحاضر: كحبات الساردين أنا و إخوتي.. متراصين وملتصقين على سرير واحد.. يجمعنا الحب والدفء و.. الفقر! في تلك الليالي ننسى شح الحياة وقسوتها، نضحك بهستيريا خاصةً عندما تصلنا رائحة أرجل أختي سُمية -يكتم ضحكته بطريقة خفيفة و يكمل- أظن أنها تعاني من مرض “فرط التعرق”. وبسبب جهل وفقر والدايّ فسرا أن كمية العرق ويداها المبتلة بسبب حسد جارتنا “إِم مِحسن” هكذا ينطقها بلهجة شامية صرفة”. لكن بعد دخولي للطب بمنحة بدأت في استيعاب أن معظم الأمراض التي عانينا منها في الطفولة كانت بسيطة وعلاجها سهل، لكن الجهل والفقر وعدم وجود وعي بالمجتمع جعلتنا مُغيبين. -عُمر يعلم أن طفولته مختلفة جداً عن غيره، خاصة أن مستواه الاجتماعي في
الوقت الراهن لا يحاكي ولا ينتمي أبداً إلى واقع طفولته

كل جلسة لها طابعها الخاص بحكاياته عن إخوته ووالدته وتغَيُّب والده عن تفاصيلهم. -أُصِبنا بداء القمل، جربت أمي جميع الوصفات الشعبية الغير مكلفة مادياً، فقد وضعت بشعرنا الغاز وغلَّفته بالكيس لتضمن قتله بشكل أسرع، حتى وصل حالنا لأسوء من ذلك وتضرر زملاؤنا بالمدرسة من دائنا- يعدل جلسته وتتغير ملامح وجهه فجأة وهو يقول: -معلمة أختي اسمها سماح ملَّت وحزنت على وضع أختي من كثرة شكوى زميلاتها واستهزائهم من لمعة الصيبان في شعرها؛ فانتظرنا ذات يوم بعد انتهاء اليوم الدراسي وجمعتنا في حمام المدرسة لغسل شعورنا بشامبو القمل.. كانت استحمامة العمر من شدة سعادتنا.. لقد وهبنا الفقر والقلة لحظات سعادة لن أنساها.. لكن أقف لحظة صمت على أبلة سماح!آه على أبلة سماح -يتكلم بضحك وسعادة طفل جيوبه ممتلئة بالحلوى، يتذكرها ويرسمها بخياله- كانت يدها حنونة وجميلة!! كنت أريد الزواج بها، لكن للأسف تكبرني بأكثر من عشرين سنة، الآن لا أمانع أبداً بعد زواج ماكرون رئيس وزراء فرنسا بمُدرسته بريجيت ماري كلاود التي تكبره بخمس وعشرين سنة. الفقر خلق له ذكريات جميلة معجونة بالحزن والفقد، يخيل له بأنه لا يحق له مشاركة الناس قصص فقره وفقده كأنها عار، في عيادتي فقط يعيشها بسعادة. في العيادة، يسمح لنفسه استرجاع أحزانه باحترام بعيداً عن أعين الآخرين. قبل السادسة مساءً علينا إنهاء احتياجنا الجسدي أو كما يقول أبي “نداء الطبيعة”.. وإلا سنضطر أن نذهب إلى منزل خالتي، مسافة تَبعُد عشر دقائق سيراً على الأقدام.. ليست بكثيرة؛ لكن إذا كنت تريد الحمام فالعشر دقائق كأنها ساعات تلعن نفسك وتلعن الحي الذي تقطن فيه. يرجعني عُمر في جلساته معي إلى فترة مراهقتي حين كنت أبحث عن حل لمشكلة الفقر، علِّي أَسُدَّ الفجوة التي تجتاح ضميري كلما اشتريت شيئاً، وكأنها تكفير عن أخطائي وذنوبي وعيشي في بيئات رأسمالية لأقنع نفسي بعد شرائي بأن السعادة ليست بالمال.. عُمر أتقن منذ الصغر فنون الصبر، العيش في بيئة صعبة تخلق قدرات عالية في التحمل تميز عن الآخرين. بعكس من تُقَدّم لهم الحياة على طبق من ذهب يعيش عمر تفاصيل حاجتهم للمال، وهو يحكي عن والدته ودروسها الخصوصية لبعض أبناء حيهم، وعدم قدرتها لتركهم وحدهم بالمنزل فلا أحد يقبل أن يجلس مع أطفال صغار السن يحتاجون لرعاية ومتابعة، فكان الحل الأفضل وضعهم داخل قطعة التحفة المسماة “السيارة” بالساعات، يقتلون الملل والانتظار وهم يرتكزون على بعضهم البعض لحل واجباتهم المدرسية

أما الآن يقوم بإجراء عملية دقيقة لمدة تزيد عن ست ساعات متواصلة دون استراحة
.يراها بالشيء الهين
تقتحم زينب الغرفة كعادتها بالقهوة التي لا أستطيع إكمالها لمرارتها، ولنعومة قرع يدها لا أسمعها، وتقطع كل حبل حماسي وأفكاري، أُكرر على مسمعها “من فضلك اخبطي الباب المرة الجاية، بلاش فقرة الاقتحام” فتضحك كعادتها وتنصرف بكل طيبة. كأن جلساته استحضار للتاريخ، أعيش في ذلك العصر الدمشقي حيث المنازل متجاورة، والبناء الطيني هو السائد. يصِف منزله وهو طفل بطريقة بسيطة “تخيل معي، باب المنزل عبارة عن قطعة خشب واحدة فقط ضخمة وهو جزء من فن العمارة الهندسية، باحة كبيرة في المنتصف، وغرف صغيرة مُطلة على فناء يحوي بِركة ماء في المنتصف وحولها جلسة رخامية حميمية مع الأهل.” -لا أخفيك أسوأ ما في البيت، هو وجود جدتي وعمتاي الأرامل معنا، وأجمل ما في بيتنا المتواضع الشجر الأخضر وأزهار الفل وتيار الهواء الذي لا ينقطع، بعكس الماء.. وكلما ضاقت بي الدنيا خرجت
.إلى فناء الساحة، ونظرت إلى حجم السماء والأفق.. فيتسع صدري
في لحظات غضب أمي كانت تدعي علينا وعلى نفسها فتقول ” يمكن لو ربنا أخذني وأخذكم نرتاح كلنا” لم تكن لِتعي أن دعوات مثل تلك، هي أقرب إلى السماء، ليتم أخذ إخوتي أمام عينيها في حادث مُروع.. كلما يتذكر عُمر الحادث، تأتيه تلك الأسئلة الغيبية ويسأل الله لماذا كل ذلك الألم والفقد؟ لماذا خلقت لنا الحزن والظلم؟ لماذا لم يختاره معهم في ذلك الحادث؟ لماذا كان عليه أن يكون مع جدته في المنزل؟دائماً يتساءل عُمر، لم تكن نوبات السخط لديه قبل الحادثة المشؤومة

يشعر بتأنيب الضمير عندما يتحدث عن أمه، لكن طالما شعرت أنه يلومها سراً على فقد إخوته، تأتيه دائماً أحلام أنه ينقذ إخوته، ومرات هو يموت معهم، وأيام بصورة أحلام يقظة أنهم يدخلوا على المنزل يوقظونه، وتكون مزحة سخيفة فقط

Survivors’ Guilt عمر يعاني من “متلازمة النجاة” أو “ذنب الناجيين”، تتضمن عدة أفكار ومشاعر مُعقدة. بالأصل هي حالة شعورية تأتي للأشخاص الذين نجوا من الحادثة بينما توفي الآخرون. فيشعر الشخص الناجي حينها أنه ليس من حقه البقاء على قيد الحياة، أو أنه كان بوسعه إنقاذهم بطريقة ما. أو أنه بكل بساطة لم يفعل ما بوسعه لإنقاذ الموقف. فالشخص مع هذه الأفكار يدخل في دوامة اللوم والافتراضات المؤلمة.. الجميل أن عمر، يتقاضى راتب عالي جداً، لندرة تخصصه، تستطيع أن تقول بأنه عوّض كل شعور الفقر المقرف الذي مرّ به، لكن هل يعوّض كل ذلك المال شعور
الفقد؟ أو شعور الإخوة؟ وأنت تعلم بأن أسمى العلاقات وأطهرها حب الإخوة…؟

الفقد، هو ذلك الألم المتجدد الذي يزعجك في كل ذكرى لهم. الذكريات، هي تلك المشاعر الجميلة التي ليس لها أي مكان غير الذاكرة و القلب فلا تستطيع البوح بها لأنهم ليسوا في حضرتك. قد تتفق معي بأن الفقد، ذلك الفراغ الذي يقرع كل غُرف قلبك، لكن لا أحد يجيب.. فتصبح زيارة أحزانك موسمية. فكيف تُعبّر أنت عن فقدك لمن تحب؟ هل تُخفي مشاعرك تحت ظل كبريائك وارتداء الأقنعة؟ وتمثيل الأدوار وكأنك لست جزأ منها..! أم تكتفي بتصرفات طفولية وساذجة لِتقنع عقلك بأن غيابهم غير مُهمٍ لك، حتى إن كانت كل مشاعرك تُشعرك بعكس ذلك؛ كيف ُتخفيها..؟! عندما يحيا بقلبك ألف شعورٍ لهم، وشعور الخسارة لا يختفي ولا يتلاشى! نتعلم من الفقد، أن الكون سيستمر بالدوران، واستمرار الحياة لا يقلل أبدًا من أهميتهم و حبنا لهم.. تتعلم مع الوقت البطيء أن النضج هو القرار الوحيد والمناسب بنهاية المطاف، لتُقدس بفقدهم تلك العلاقة الجميلة

الفقد هو الدرس الوحيد الذي يثبت لك أن ضمانات الحياة غير موجودة، وحتى الأشخاص وعلاقاتهم معك لها صلاحية انتهاء. و أن تُأقلم نفسك على فراغ غيابهم..و تملئ المساحات الشاسعة بفقدهم بطاقتهم الإيجابية لعلكم تلتقون يوماً على منابر من نور. لست أعلم إذا كان يأتي عوض الفقد.. لكن عميل قال لي: يأتينا عِوَض الفقد بعدة أوجه غير التي نراها.. قد يأتيك بصحبة صديق، مكالمة جميلة من شخص تحب.. أو حتى نكتة سخيفة تجبرك أن تبتسم لها ولسخافتها.. أنا مثلك أكره الفقد والرحيل، ومن منّا يحبه؟
عُمر يجب عليك أن تواجه شعورك أكثر، ساعات عملك هي محاولاتك الجادة في الهروب من الألم، فهل تستطيع أن تغفر لنفسك؟ فلو كنّا نعلم القَدَر
لاستكثرنا جميعاً من الخير

تم أخذ الإذن المسبق من العميل مع تغيير هوية و بعض الأحداث لتتناسب مع السرية

SHARE THIS

1 Comment

  1. Hawazan Binzaqr
    April 9, 2019 at 10:12 am · Reply

    Beautiful, Beautiful, Beautiful
    The article really touched my heart

Leave a reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

We’d love to help

If you are unable to pay your sessions due financial reasons!

let us know!

I cant afford

Find Me

ACT Center
233, Mohamed Bin Abdulaziz St. Al Andalous District.
Jeddah, Saudi Arabia
P.O.Box. 140905,

We Are on Social