Blog

Home / من خِلالك

January 21, 2019

من خِلالك

رأيتها لأول مرة وعلامات الشحوب تكسوها، يومها كدت أجزم أن الخوف صديقها الوحيد في الغُرفة، أذكر أولى جلساتي معها.. إنحناءة ظهرها وهي على المقعد كعجوز متقاعد تكُرر علي مسمعي “لدي طبيب عائلة
في الخارج يساعدني وأثق به، ولولا تدهور حالتي لما اضطررت للمجيء” و كأنها تخبرني بصوت واضح أني
.مهما فَعلت لن أكون المُفضلة لديها

تلك النظرات أشعرتني بأني في مقابلة شخصية ومحاولاتي الجادة لإظهار قدراتي المِهنية بدت فاشلة

أعادتني لأول مقابلة لي بإحدى المستشفيات بجدة فترة عودتي من تورونتو، كانت من أسوأها بجدارة، بينما
أنا حينها حاولت تبرير ردة فِعلهم إتجاهي بأنها مُجرد نظرة ذُكورية مازالت تُسيطر على مجتمعي

فرح بدت لي هادئة متماسكة حين تحدثت: كل مشاكلي بدأت في اليوم المشؤوم رحلتي من جدة إلى لندن، وأنا على متن الطائرة وكلي حماس نستعد للإقلاع.. ومن حيث لا أدري دون شعوري توقف قلبي عن النبض لوهلة..! ثم  تسارعت نبضاتي وشعرت أن قلبي سيخرج من صدري لقوة ضرباته، بدأ معي إعياء شديد، جسدي وأنفاسي تُسحب مني تدريجياً، أخذت أسترجع شريط حياتي كأني بفيلم سينمائي، أرى فيه كل شيء عني.. أخطائي.. أبي الذي سألحق به وأبنائي.. الله ولقائه.. كدت أُجن.. كل ذلك كيف؟

بدأت بالانهيار وأصبحت أنادي بأعلى صوتي للمضيفة علها تسعفني.. ولكنها قررت تجاهلي تماماً.. هرعت إلى باب الطائرة أود الخروج ورغم محاولة الآخرين لتهدئة الوضع وعدولي عن قراري. رفضت بحجة أني سوف أموت..و بأني أعاني من مرض في القلب

سألتُها: هل تعاني فعلاً؟

أجابت ضاحكة: لا طبعاً ما عندي سالفة.. بس خفت.. أكملت.. بعد تهديد المضيفة لي إن خرجت فلن يسمح لي
.بالعودة مرة أخرى

كل الفكرة كانت تدور حول “لازم أخرج من المكان.. لازم أخرج من المكان.. لازم أخرج من المكان.. لازم أخرج”.. لم أهتم بكلام المضيفة رغم صوتها الذي أثار استغراب الجميع ونظرات الشفقة وحكمهم عليّ بالعَتَه حينها لم
.أهتم إلا بالخروج من الطائرة دون النظر إلى تبعات ما فعلت

أغلب الأشخاص الذين يعانون من اضطراب القلق لديهم أفكار مكررة، تأتي أحيانا على هيئة صور، تزداد
.سرعتها وقوتها في مواقف معينة تجعلهم أسرى للفكرة مصدقين لها مؤمنين بحدوثها في أي لحظة

:تُكمِل فرح

لقد ذهبت إلى طبيب الطوارئ بانتظام لدرجة أنه قال لي ذات مرة بأنها المرة السادسة على التوالي خلال الشهر أراجعهم. وكل تحاليل وتخطيط القلب سليمة لديّ، قلت للطبيب بصوت مرتفع “ليعتقد الجميع أني مجنونة لا يهمني ذلك” فأجابني بصوت منخفض ووقار أب حكيم “سوف أحولك لأخصائية نفسية، المشكلة
“ليست منك بل من عقلك”

كدت أُجن فعلاً.. لا أعلم كيف تمالكت نفسي من جوابه الوقح! أم هو كبريائي الذي منعني وجعلني أُحرج من
مشكلتي الحقيقية..فرح هذا الكائن المختلف عمن حوله، هذه الإنسانة تتمتع بكل شيء لكن  تختنق بخوف من
.نسج خيالها الخاص

فرح شخصية مرحة في الأصل، تدهشني خفة دمها التي لا أفهمها؛ للحظة لا أفهم أهي تحكي أمراً مُوجعاً أم أنها تَسخر من أمر ما! تطلق النكات دون أن تصاحبها أي تعابير تطابق ما تقول. تُعيد “المشكلة كلها من
“هِنا وتشير بإصبعها بقوة إتجاه جبينها

كل شيء متوقع مني لأني مجنونة؟-

ابتسمت.. من أخبرك بأنك مجنونة؟-

كأن الجنون صفة مُحتكرة على مراجعي العيادات الإرشادية! حاولت فهم الفكرة، وأبعادها الاجتماعية وكيفية تأثيرها فعلياً في تأخر وحرمان أشخاص كثيرين من العلاج. فالبعض مفهومهم عن العيادة الإرشادية والنفسية كأنها مكان كبير مظلم يعلوه أصوات عواء كلاب برية والأشخاص مكبلين الأرجل بلباس أبيض يوحي بالموت
وكلما أساؤوا التصرف صعقناهم كهربائياً لِيُحسنوا التصرف، تماماً كما تم رسمها سينمائياً في الستينيات

تدخل أحياناً في دوامة الخوف اللامنطقية الغريبة وفكرة الموت تطاردها في كل مكان فتتصرف بطريقة طفولية،  فهي تُرجع فَقدَها لعزيز عليها وكأنها تُشبع فكرة الوداع بوجوه المارّة،  فتتعلق بكل شخص قد يصادفها وتجعل
.له حكاية تخصها ولها دور مفصلي بها

تحكي فرح قصتها

لدرجة أني في أيام من شدة الأفكار طلبت من الله أن يأخذ روحي علّني أرتاح مما يجول في رأسي

كأن الموت يستأذن كل ساعة مني ليقبض ما تبقى لي من العُمر، فلا العُمر انقضى ولا عشت حياة هنيئة، رحت ألعن اليوم الذي انتابتني فيه “نوبات الهلع” والأفكار المسمومة الغريبة. أصبحت أقلق من كل شيء
“أفكاري كلها مصطحبة ب “ماذا لو” أو “فلنفترض

فرح امرأة ثلاثينية تعيش على التفاصيل الدقيقة، وتصفف شعرها بطريقة فوضوية، تسرد لك أدق مواقفها الحياتية صغيرها وكبيرها وتنقلك من فكرة إلى أخرى دون توقف.. أحاول قدر المستطاع التركيز وتجميع المواضيع وتحديدها معها لكن لم أستطع. لديها قلب وعاطفة لو وُزعت على أشخاص العالم لكَفتهم، تجلس دائماً بزاوية معينة ولا تُغيرها مهما كانت الأسباب إلا مرة واحدة فَعَلت وأنا عن نفسي “ندمت”، تضع نفس العطر، ذوقها في الملابس متشابه يعطيك انطباع بالنمطية الكلاسيكية والخوف من التغيير، وكأن كل شيء
.جديد أو مستحدث سيجعلها تُفكر أكثر فتخافه وتستهجنه

أنا وهي لا نتشابه في شيء ولا نتقاطع إلا في محاسبة الذات، هواتفنا المُعطلة، وخفة الدم طبعاً.. كنت أشعر
.في مواقف كثيرة أني أفهم ماذا تقصد أو تشعر.. غير أن كل ذلك اكتشفته بعد فترة طويلة من رحلة علاجها

بدت الأحداث أعمق مما هي عليه، ربطت تعلُقها بعيادتي لِبحثها المستمر عمن يتقبلها و أخطاءها بغير شروط، لطالما وضعت أقنعة أمام الآخرين لتظهر حياتها مثالية، تهتم بتفاصيلها وأن تكون على أحسن صورة خوفاً من
.انتقادها وبحثاً عن إرضاء الجميع

أشعر أحياناً أني في حفلة شاي معها و كأني أرى الحياة من خلال مغامراتها. وددت شكرها على القصص
.التي تشاركني إياها، فهي تخرجني بقصتها لخارج زوايا غرفتي هذه

أمضيت معها فترة طويلة لا نتحدث إلا عن فكرة الموت والقلق حتى سَئِمت فرح منها، لطالما ترجمت خوفها من  
الموت بفقد والدها منذ مراهقتها و هو الحاضر الغائب. فحّولته فرح لضميرها الذي تحاسب نفسها و تمنعها بحجة أنه 
.سلوك لا يليق بها. وهي تذكر صوت دعواته لها كلما شدتها رغبتها لفعل خطئٍ ما

أن تصبح صديق القلق أفضل من أن تبغضه؛ فالتوتر سمة إنسانية ضرورية ليست عيبًا أو نقصاً نُداريه أو نخجل منه، القلق هو حافز للنجاح، التوتر وقود للحركة نحو فعل ننجزه
نقلق لنصل، لننجح لننهي عمل ما.فلولا القلق
.لما أنجزت أمور وُقضيت حاجات
.فرح تذكري جيداً أن لا تعيشي على “فَرضيات أفكارك”، لأن نور الواقع الذي أنت فيه أجمل بكثير

تم تغيير هوية الشخص وأحداث القصة لتتناسب مع سرية العميل وأخذ الإذن المسبق منه*



.

SHARE THIS

6 Comments

  1. Sarwat Hammoud
    January 22, 2019 at 1:20 pm · Reply

    يا الله كم من فرح تعيش في داخلنا. وكم من الأشخاص سيقرأ قصة فرح ويرى نفسه من خلالها. أبدعتي استاذة سلمى كالعادة في الوصف والتعريف. وكأن لك أنامل سحرية تعيد صياغة التعريف في قاموس تجاربنا المؤلمة! جعلتي من القلق والتوتر حاجة وضرورة لاستمرار الحياة بشرط أن نحسن التعامل معهما بجعلهما اصدقاء. الجملة الأخيرة !!!!!! نور الواقع اجمل من فرضيات الافكار تختصر كل المعاناة. أبدعتي !!! ولامستي القلوب والافكار والواقع بماضيه وحاضره! أستطيع ان اكتب مجلد كامل عن تجربتي معك بالتغلب على خوفي وعن كم التغييرات الايجابية التي حدثت بعدها! أقرأ قصة فرح وأتذكر ! أستاذة سلمى أناملك السحرية كما أصفها لم تغير فقط في تعريف القلق ولم تغير فقط في هوية الشخصية أستطيع ان اجزم واقول انك استطعتي ان تغيري مجرى احداث حياة في واقع الكثير ممن عرفوكي ! شكرا من القلب

    • salma
      January 30, 2019 at 3:53 pm · Reply

      شكراً إنت من القلب..

  2. Shahd Mannaa
    January 28, 2019 at 9:25 am · Reply

    Your words always beautify the darkest ideas that we might have and that we may be carrying for so long!
    Thank you Salma!

    • salma
      January 30, 2019 at 3:53 pm · Reply

      Thanks a lot Shahd

  3. Name (required)Sultana
    March 5, 2019 at 9:12 am · Reply

    أتشرفنا فيكي اليوم – في الحرس الوطني
    نتمنى نسمع منك أكثررررررر و أكثر

    حقيقة جزء كبير من فرح يعيش بداخلي و افتراض أسوأ النتائج.
    خاصة الخوف من الفقدان،، خاصة فقد الأشخاص العزيزين ، الوظيفة، الأهل، النعم عموماً من حولي
    خاصة بسبب إهمال أو عدم تقدير، أو أكثر شيء بسبب أخطائي
    الخوف من الفقدان دائماً أمام عيني ،، فهل من طريقة ل تغيير تصوري

    س. النهدي

    • salma
      March 26, 2019 at 5:32 pm · Reply

      شكراً على كلامك الجميل الشرف ليا، التعامل مع الفقد ياخد وقت لكن مع التقبل و تخفيف الافكار السلبية يخف القلق. انصحك بكتاب العقل فوق العاطفة
      overcoming worry and generalized anxiety disorder by Freeston

Leave a reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

We’d love to help

If you are unable to pay your sessions due financial reasons!

let us know!

I cant afford

Find Me

ACT Center
233, Mohamed Bin Abdulaziz St. Al Andalous District.
Jeddah, Saudi Arabia
P.O.Box. 140905,

We Are on Social