مع بداية كل عام دراسي جديد ينتابني شعور غريب هو مزيج من الخوف والسعادة. أنا إنسانة لا تألف البدايات ولا الوجوه الجديدة، ومع ذلك أتشوق جدًا إليها. أجمل أيامي وأغربها كانت في الصفوف الدراسية، فلا يمكن أن أنسى كمية الضحك الهستيرية بين ممرات الفصول، ولكنني أذكر أيضًا تنمر بعض الزميلات المؤلم في
.زوايا الفصل على البعض الآخر
مع مرور الوقت وعندما كبرت استهجنت نظام التعليم في عالمنا العربي، الذي ركز على حشو المعلومات فقط، وتقييم ذكاء الطلاب بدرجات لا تقيس مستوى إبداعهم أو تراعي تنوع شغفهم. أضف إليها تمييز المعلمات للطالبات الحاصلات على الدرجات العالية وإهمالهن للبقية، وكأن المتفوقات دليل حي يبرزنه في كل وقت على نجاحهن كمعلمات، وفشل البقية لأسباب بعيدة عنهن، رغم أننا لم نكن في قاعات محكمة، بل فصول دراسية تأخذ بيد طالباتها ليفهمن الحياة والمستقبل أفضل
أذكر تركيز بعض المعلمات السطحي على المحتوى الديني، في قصة معلمتي التي شطبت على صورة “بيل”شخصية ديزني المطبوعة على مقلمتي، بحجة أنها روح وبتلك اللمسة قضت عليها. لو تحدثت معي عن قيم الدين أو ناقشت حب “بيل” للكتب والقراءة لاستفدت أكثر ولم أصب بنوبة الذهول تلك. لا أحمل
..الضغينة إنما شعور الرحمة بمعلمتي تلك، فهي أيضًا نتاج تعليم ضحل غير واقعي
.وغير مجدي
انتقالي من الرياض إلى جدة سبب لي ارتباكًا كبيرًا في أول عام. للتنمر أشكال وألوان قد نمارس بعضها دون أن نشعر. الاستهزاء كان من نصيبي بسبب لهجتي المختلفة عند استخدامي لكلمة ”مسفع” بدل من ”طرحة“، أو ”شنطتكي” بدلاً من ”شنطتك“، والصمت الرهيب ونظرات كل من حولي واجهتني عند قولي “ عندما طلبت
corrector .المزيل
ثم رد زميلتي الفظ أماما الجميع
.! اسمه ليكويد
.لماذا نستهجن الكلمات الجديدة؟ لماذا لا تحتوي فصولنا الاختلاف؟ فهي إثراء وتعايش
.وإضافة
بدأت درجاتي في المراحل الدراسية مع الوقت بالتدني، يوماً بعد يوم. لا أنسى كمية الشتائم الجميلة من والدي التي طالما رافقت عقلي، وكمية الإحباط التي جلبتها لوالدتي في اجتماع الأمهات. لم أفهم حتى أنا السبب. لكن كل الذي كنت أعلمه ومتأكدة منه أني مضطرة لمذاكرة مناهج ومواد لا تعجبني ومملة جداً لي ولا تستثير
.عقلي
كنت أتعذر عن إعطاء والديّ الدرجات، فمرات أخبرهم أن المدرسة تأخرت، ومرات أصبُ فوق الدرجات الماء محاولة مني لتزويرها، كل ذلك كي لا تقترن ثقتي بنفسي بدرجاتي. لكن ذلك حصل عند تكرار فشلي في المواد العلمية وخاصة الرياضيات، الذي كان يتلوه بكائي المستمر في الفسحة بعد ظهور درجاتي المتدنية. ومحاولاتي الجادة التي لم تأتي بنتيجة في فهم المعادلة مع مدرسي الخصوصي محمود، الذي كان يصيح ويكرر على مسمعي الشرح كي أفهم دون فائدة، فأهز رأسي لا لأنني فهمت بل كنوع من”التسليك” لإنهاء
،دراما المعادلات التي هي بمثابة رموز فرعونية أمامي
لم يكترث أحد إن كنت أعاني من صعوبات تعلم أو ربما لم يستوعبوا، لكنهم حرصوا
“على تقييمي “غير مجتهدة
تلك الذكرى تركت في نفسي اختلاف عن الغير لم تلئمه سوى السعادة التي اجتاحتني في تورونتو ٢٠١٢، عندما خضعت لاختبار واكتشفت معاناتي من صعوبة تعلم الأرقام تحديدًا والتي تسمى
.dyscalculia
فهمت حينها سبب عدم استطاعتي عد الباقي من النقود في مطعم، أو إعطاء بخشيش بنسبة ١٠٪، أو قراءتي للأرقام بطريقة معكوسة، فتسامحت مع نفسي ومع فكرة كتابتي
الخاطئة للأرقام وتعايشت معها بكل
.رضا
أما أخصائية المدرسة فهي قصة ومقال طويل بذاتها. ما أعرفه والمفترض أنها المسؤولة عن مراقبة سلوك و نفسيات الطالبات ودعمهن إيجابيًا، لكن الشخص الذي قابلته هو إنسانة معقدة حديثة التخرج من الجامعة، أجزم أنها لم تدرس أي شيء عن سلوك الأطفال أو الأفراد ونفسياتهم. مهمتها الوحيدة وشغلها الشاغل سحب البكل الملونة والأساور من شعر الطالبات وأيديهن ثم توبيخهن. فقط لو أنها فكرت بتطوير نفسها أو فتحت قلبها وأمعنت النظر .. كانت هناك الكثييرررات ممن احتجن لمساعدة أو مسحة
من الاحتواء
تشابهت أولى أيامي في الجامعة بأولى أيامي في المدرسة، سواءً في الفصل المكتظ بالطالبات، أو فترة الصمت والوحدة التي تسبق التعارف على الزميلات الجدد، فلم أصادف عرفًا أو نظامًا مدرسيًا ساعدنا بالتعريف عن أنفسنا أو التعرف على زميلاتنا. ذلك الشعور شعرت به أيضًا عند دخولي جامعة الملك عبد العزيز، ولا أنسى الإحباط التي شعرت به قسم الآداب، واختلاف البيئات.. أما الآن فأنا أتبارك “بالمبنى
.الخامس“ الجامعي الآيل للسقوط؛ ذلك لأني تعلمت فيه ماغيّر شخصيتي جذرياً
أضحك كثيرًا كلما تذكرت تلك المواقف وأستخلص منها الكثير من العبر. فكلما استرجعت قصة “الليكويد” آمنت بأن كل من في الفصول الدراسية يريد تغيرك واملاء قوانينه عليك كطفل، لكن لا تهتم. كن نفسك وتعلم
.أن تتأقلم، اندمج لا تنسحب
وشخصية أخصائية المدرسة المعقدة ونصائحها العقيمة، حرصت أكثر ألا أحمل عقدي التعليمية إلى طالباتي أثناء عملي كمحاضرة في الجامعة، وأصبحت أرى أهمية وظيفة كل شخص مهما بدت بسيطة، فلا
.تشغل حيزًا فقط في عالم مليء بالأعداد
قصتي مع الرياضيات، علمتني أن أقدر ذاتي على جهدها المبذول لا على درجاتي. فدرجاتنا هي مجرد أحرف، ونحن أعمق وخبراتنا أكبر من ذلك. فلا تلم نفسك على إخفاقاتك الدراسية ولا تقف مكتوف الأيدي، لكن لنبحث عن المسببات ونعمل على حلها، وحينما نجد أنفسنا، سنجد نجاحها وسننسى كل ذلك الفشل أو نضحك كثيرًا عند تذكره
قد تمر بمرحلة انتقالية صعبة في حياتك، لكنها ستمر، وستذكر دروسها كباقي مراحل حياتك. تعلم كيف تتعايش مع من حولك، واحتفل بإنفراديتك ولا تتطبع. ابحث عن شغفك في كل مرحلة من حياتك. ابحث عما يلهمك ولا تقف عند الكتب الدراسية فقط، كن المبارد واختر ما تريد، ولا تكن المتلقي فقط. ارفع يدك في الفصل حتى إن شعرت بالخجل، أخطئ قدر ما تستطيع، لأنك كلما أخطأت ازدادت خبرتك واتسع أفقك. فكر
.خارج الصندوق، ولا تكن تبعًا، ابحث عن نفسك والكثير الذي فيها
SHARE THIS
“علمتني أن أقدر ذاتي على جهدها المبذول لا على درجاتي. فدرجاتنا هي مجرد أحرف، ونحن أعمق وخبراتنا أكبر من ذلك.”
لكن ألا يجدر بالدرجات أن تقيس مدى فاعلية هذا الجهد فإن كانت الدرجات منخفضة فقد تكون تلك إشارة على عدم بذل هذا الجهد بطريقة فعالة أو حتى في الاتجاه الخاطئ أو ربما أنه على الأقل وفي أسوأ الأحوال جهد غير كافِ. فالدرجات هي إحدى الطرق التي تعكس مدى فاعلية الجهد المبذول في الدراسة، حتى وإن كانت الامتحانات لا تناسب طبيعة شخصيات البعض، فباختصار ما عليهم إلا أن يتعلموا كيفية التعامل مع هذا المتطلب. والحروف تلك مجرد أداة ذات قيمة في إحدى طرق قياس وتقييم ما تعلمه الطالب خلال العام وهذه الأداة هي الامتحانات. ونظام التعليم هذا يشكل جزء من خبراتنا وعمقنا.